جنين | تُقرأ المخيمات من بواباتها، كما يُقرأ المكتوب من عنوانه؛ ومخيم جنين يمكن أن تقرأه من بقايا اجتياح 2002، والتي نهضت لتصبح جواداً جامحاً على أحد مداخله، فيما على المدخل الآخر ينتصب العنوان الكبير: «العودة»؛ والعودة لا تمرّ إلّا من فوّهات البنادق، وفي مخيم جنين، «عش الدبابير» أو «عاصمة الإرهاب» كما تحبّ إسرائيل تسميته، لم تسقط البنادق، ولم يجفّ الدم منذ 75 عاماً. 75 عاماً والمخيم يخوض المعارك تباعاً، وآخرها معركة الخمسين ساعة والتي لن تكون نهاية القتال؛ فالمخيم على موعد مع مواجهة جديدة حتماً، طالما بقي ينجب أطفالاً يحلمون بالعودة من فوّهات البنادق. وإلى أن تتحقّق العودة، فإن المعارك هي قدَر البقعة، التي عليها في كلّ مرّة أن تنهض من بين الأنقاض لتشحذ أظافرها، وتعجن لحمها ودمها بالقتال، بوصف الأخير جدوى مستمرّة. حكاية مخيم جنين تتلخّص برجال «آمنوا بربهم»، وسرّ إيمانهم أنهم قادرون على قرع رأس الوهم، والعبث بدولة نووية وتحدّيها، ولو بما لا يزيد على 150 شاباً متسلّحين بأسلحة خفيفة في مواجهة آلاف الجنود والدبابات والمجنزرات والطائرات.
إنه مساء الثالث من تموز: غارة إسرائيلية بطائرة مقاتِلة هزّت مخيم جنين الذي لا تزيد مساحته على كيلومتر مربّع واحد ويعيش فيه قرابة 15 ألف نسمة، أيقظهم دويّ الانفجار، الذي أعلن بنفسه عن بداية العدوان. استهدفت الغارة التي أرادت من خلالها إسرائيل بثّ الرعب في نفوس الأهالي، وإثارة الفوضى والاضطراب في صفوف المقاومين، نقطة لهم ارتقى فيها سميح أبو الوفا، لتتوالى عقبها الغارات الجوية. طوال الشهور الماضية، كان سكان المخيم يرقبون تصريحات الاحتلال حول التحضير لشنّ عملية عسكرية واسعة ضدّ المخيم، والتي أيقظت في أنفسهم ذكريات مجزرة 2002، فاستعدّوا للمواجهة بأقصى ما لديهم، مُدركين أن الحساب الذي لم يُغلق بينهم وبين دولة الاحتلال، سيدفع الأخيرة إلى الانتقام بأبشع صوره، وخصوصاً أن مخيمهم أضرم منذ عامين نار المقاومة في الضفة الغربية، وعمّم نموذج كتيبته على محافظات فلسطين ومخيماتها.
مخيم جنين (الأخبار)
عائلة عرسان (القريني) واجهت مصيراً مرعباً في خضمّ هذه المواجهة الجديدة؛ إذ اتخذت قوات الاحتلال من أحد منازلها مقرّاً لقناصتها بعد الاستيلاء عليه، وبدأت بإحداث فتحات في جدرانه ونوافذه بما يسمح للقناصة بمراقبة المقاومين، بينما تكفّل بقية الجنود باحتجاز أفراد العائلة في إحدى الغرف وتكبيل أيديهم. هكذا، تحوّل هؤلاء، منذ اليوم الأول، إلى دروع بشرية بأيدي العدو، بمن فيهم يوسف عرسان الذي لم يتجاوز عمره 10 سنوات، والذي قيّد الجنود قدميه ويديه، كما تقول والدته لـ«الأخبار»، مضيفةً إنهم اعتدوا عليه بالضرب وأرادوا إخضاعه للتحقيق، لكن صراخ أقربائه المتواصل حال دون ذلك، ليبقى مقيّداً لعدّة ساعات. إبراهيم عرسان، عمّ يوسف، فقدَ بدوره منزله الذي احترق بالكامل جراء قصفه بصاروخ إسرائيلي، فيما تعرّضت ابنته لهجوم من كلب بوليسي أطلقه جنود العدو عليها، لينهشَ قدمها ويتسبّب بإصابتها.
Leave a Reply